تمثل المنقوشة اللبنانية نموذجًا حيًا لتراث الطعام الذي يجمع بين المذاق والهوية، حيث أصبحت هذه الوجبة جزءًا من الحياة اليومية للبنانيين بمختلف خلفياتهم، كما اكتسبت بعدًا رمزيًا يعكس روح التلاقي بين أفراد الأسرة والمجتمع، وسجلتها اليونسكو في العام 2023 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
تُحضَّر المنقوشة في المنازل والمخابز الصغيرة وتُعتمد فيها تقنيات بسيطة ومتوارثة، إذ تُشكّل العجينة بأطراف الأصابع وتُغطى بخليط من الزعتر والسماق والسمسم المحمص والملح وزيت الزيتون، وتُخبز في أفران تقليدية لتنتج رائحة تجذب الكبار والصغار، ويمكن لاحقًا تزيينها بمكونات إضافية مثل اللبنة والطماطم والخيار والزيتون والنعناع، وهو ما يمنحها تنوعًا يتماشى مع الأذواق المختلفة ويعزز مكانتها كوجبة رئيسية في الفطور اليومي.
تؤدي النساء الدور الأساسي في تحضير المنقوشة داخل البيوت، بينما يشارك الرجال أيضًا في مخابز المنقوشة الصغيرة التي تنتشر في المدن والقرى، وغالبًا ما يكون إعداد هذه الوجبة عملًا جماعيًا في نطاق الأسرة الواحدة، مع تقسيم واضح للمهام حسب الجنس، حيث تمزج هذه العملية بين العمل والطابع الاحتفالي.
ويصاحب إعداد العجينة طقوس دينية عفوية تعكس التعدد الديني في لبنان، إذ يقرأ المسلمون سورة الفاتحة بينما يردد المسيحيون أدعيتهم ويرسمون إشارة الصليب قبل ترك العجينة لتختمر.
يُكتسب فن إعداد المنقوشة بشكل غير رسمي من جيل إلى آخر، من خلال المشاهدة والمشاركة المباشرة، دون الحاجة إلى تعليم منهجي، مما يجعل هذا التقليد راسخًا في الحياة اليومية ويصعب فصله عن النمط الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
كما أن للمنقوشة دورًا مهمًا في دعم الاقتصاد المحلي، إذ تُعدّ مصدر دخل للمخابز الصغيرة التي تشغل عددًا من أفراد الأسر وتؤمن لهم فرص عمل مستدامة في ظل أزمات اقتصادية متكررة.
تساهم رائحة المنقوشة الساخنة في إحياء الذاكرة الجماعية لدى اللبنانيين، إذ ترتبط هذه الوجبة بلحظات دافئة من الصباحية أو جلسات الشاي بين الجيران والأقارب، كما تُشكّل مناسبة للتفاعل الاجتماعي والتقارب اليومي الذي يدعم الروابط الأسرية والمجتمعية.
ومع إدراج هذا التقليد ضمن التراث الإنساني في قائمة اليونسكو، تتعزز قيمته الثقافية والرمزية وتزداد الحاجة إلى حمايته وتوثيقه ونقله للأجيال الجديدة بطرق تحفظ أصالته وتحترم تنوعه.
المصدر: اليونسكو