يمثل فن النقش على المعادن واحدًا من أقدم الفنون الحرفية التي حافظت على مكانتها داخل المجتمعات التقليدية، إذ يعكس هذا الفن الموروث الثقافي والهوية الجماعية من خلال الزخارف المنحوتة على الذهب والفضة والنحاس والتي تُستخدم في صناعة أدوات منزلية أو حُلي شخصية أو لوحات زخرفية تحمل طابعًا فنيًا خاصًا.
ويعتمد هذا الفن على تقنيات دقيقة في نحت الزخارف وإبراز تفاصيلها بأدوات بسيطة، مما يجعله أحد أبرز أشكال التعبير البصري عن تراث الشعوب.
يمتد تاريخ هذا الفن إلى قرون طويلة سبقت ظهور الصناعة الحديثة، حيث تؤكد المكتشفات الأثرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبلاد فارس والهند أن النقش على المعادن كان رائجًا في العصور الإسلامية الأولى وفي الحضارات القديمة، وقد شكّل جزءًا أساسيًا من المظاهر اليومية للحياة في تلك الأزمنة.
وكان الحرفيون يتوارثون المهارات والخبرة عبر الأجيال، ويطورونها باستخدام أدوات محلية وتقنيات بسيطة تعتمد على اليد والعين والخبرة الطويلة، وظهرت في كثير من القطع المنقوشة رموز وزخارف ذات دلالة دينية أو جغرافية أو اجتماعية، ما جعل كل قطعة تحمل بصمة مجتمعها ومكانها.
يشكل هذا الفن اليوم شاهدًا حيًا على قدرة الحرفيين على الابتكار رغم الأدوات المحدودة، ويعبّر عن الهوية الثقافية للمجتمعات التي حافظت عليه ضمن تقاليدها، وهو ما دفع منظمة اليونسكو مؤخرًا إلى إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، تقديرًا لقيمته الفنية والتاريخية، وتحفيزًا للمجتمعات والدول على بذل جهود أكبر في الحفاظ عليه من الاندثار أو التشويه التجاري.
ويُعد هذا الإدراج خطوة رمزية مهمة، لأنه يسلط الضوء على ضرورة حماية الفنون الحرفية التي لا تزال حية لكنها مهددة بسبب العولمة وتراجع الاهتمام بالمهارات التقليدية.
يعاني هذا الفن اليوم من تحديات متزايدة أبرزها عزوف الشباب عن تعلم الحرفة، وغياب التدريب المهني المنظم، وندرة المواد الأولية المحلية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، فضلًا عن ضعف الطلب المحلي أمام المنتجات التجارية الأرخص، وتُضاف إلى هذه التحديات نظرة المجتمع التي كثيرًا ما تقلل من قيمة الفنون الحرفية التقليدية، رغم أنها تختزن ثقافة وهوية كاملة.
تحتاج حماية هذا التراث إلى دعم واضح من الحكومات والجهات الثقافية، عبر تخصيص برامج تمويل وتدريب، وفتح مساحات عرض، وتنظيم معارض ومهرجانات تروّج لهذه الحرفة وتعرّف الجمهور بقيمتها الجمالية والتراثية، إلى جانب إشراك الحرفيين في عمليات التطوير والتوثيق، ولا يمكن إنقاذ هذا الفن دون إشراك الجيل الجديد وتحفيزه على تعلم المهارات اليدوية وربطها بالحاضر عبر مبادرات تعليمية وتكنولوجية.
يبقى فن النقش على المعادن أحد أبرز التعبيرات الصامتة عن التاريخ والذاكرة الجمعية، وهو يحمل في تفاصيله الدقيقة هوية الشعوب التي صنعته، والجهود المبذولة اليوم لحمايته تعني أيضًا حماية الذاكرة الإنسانية من التبديد والتهميش.
المصدر: العين الإخبارية