شهدت مدينة لبدة الكبرى، الواقعة على الساحل المتوسطي عند مصب وادي لبدة شرق مدينة الخمس الليبية، مراحل متتالية من الازدهار والانحدار منذ تأسيسها في القرن السابع قبل الميلاد، حيث أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1982 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لما تمثله من نموذج فريد للعمارة والتخطيط الحضري الروماني، وما تحتويه من آثار تعود لأزمنة متعددة، عكست تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية مرت بها شمال إفريقيا عبر العصور.
ارتبط تأسيس المدينة بالفينيقيين الذين اختاروا هذا الموقع الطبيعي كمرفأ بحري، وسرعان ما تحول إلى مركز تجاري نشط عُرف باسم «لبكي»، ثم «لبتس» باليونانية، قبل أن يُطلق عليها لاحقاً «لبدة مانيا» أي لبدة الكبرى.
حافظت المدينة على استقلالها المحلي لفترات طويلة، خاصة خلال سيطرة القرطاجيين، وتمكنت من بناء علاقات إيجابية مع سكان المنطقة، ما ساعد في تسريع حركة العمران وتطوير النشاط التجاري، خاصة عبر نهر عين كعام وميناء المدينة.
تعرضت المدينة لعدة اضطرابات وصراعات إقليمية، منها محاولة الإغريق بقيادة الأمير دوريوس السيطرة على مصب نهر كعام، مستغلين مرحلة ضعف اعترت لبدة، غير أن القرطاجيين تدخلوا سريعاً، وطردوا الإغريق، وأعادوا سيطرتهم على المدينة، وبعدها بسنوات دخلت المدينة مرحلة جديدة حين تحولت تبعيتها شكلياً للنوميديين، ثم قدمت طلباً مباشراً للتحالف مع روما التي دعمتها عسكرياً، ولكن السيطرة الحقيقية تحققت للرومان في العام 42 قبل الميلاد.
شهدت المدينة في العصر الروماني أكبر مراحل ازدهارها، خاصة في عهد الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، الذي كان أحد أبناء المدينة، واعتلى عرش الإمبراطورية بين عامي 193 و211 ميلادي، فقام بإعادة تخطيط المدينة، وشيد أبرز معالمها مثل الساحة السويرية، وقوس النصر، والشارع المعمد، ونبع الحوريات، مما جعل لبدة تنافس كبرى المدن الرومانية في العمارة والبنية التحتية.
بلغ عدد سكان المدينة آنذاك نحو ثمانين ألف نسمة، وكانوا مزيجاً من الليبيين والرومان والإغريق والقرطاجيين، وكانت لبدة تتمتع بمكانة إدارية واقتصادية تفوق جارتها أويا «طرابلس»، حتى بدأت الأخيرة تكتسب صفة الولاية في القرن الرابع الميلادي، وبدأ التنافس بين المدينتين.
دخلت لبدة مراحل الانحدار ابتداءً من القرن الرابع الميلادي بسبب الغارات الخارجية، مثل هجوم الجرمنتيين بدعم قبائل الجنوب، واحتلال الوندال سنة 455 ميلادي، الذين دمروا بنيتها التحتية وتسببوا في نزوح السكان، وتراجع كبير في النشاط الاقتصادي، تزامن مع فيضان عنيف لوادي كعام حطم الجسور والأسوار، مما سرّع من وتيرة التدهور.
استعادت لبدة جزءاً من مكانتها بعد دخول البيزنطيين سنة 533 ميلادي، إذ حولوها إلى مقر للحاكم العسكري وأعادوا ترميم المعالم المعمارية، غير أن هذا التعافي لم يدم طويلاً، فمع قدوم الفتح الإسلامي سنة 643 ميلادي، كانت المدينة قد تحولت إلى أطلال تعيش فيها بقايا السكان من أجناس متفرقة في منازل شبه مهدمة.
ما زالت لبدة الكبرى تحتفظ اليوم ببقايا حضارية تدل على عظمتها، مثل السوق البونيقية التي تعود إلى عام 8 قبل الميلاد، والمسرح نصف الدائري، ومبنى الكالكيديكوم، وحمامات هادريان، وأخرى تعود للإمبراطور سبتيموس سيفيروس، وكلها تشهد على تطور عمراني متسارع في القرن الأول والثاني الميلاديين.
وفي عام 2006 أعلن فريق أثري ألماني تابع لجامعة هامبورغ عن اكتشاف أرضية فسيفساء تمتد لـ30 قدماً في إحدى الفيلات الرومانية وتصور مشاهد صيد ومصارعة، وهي الآن معروضة بمتحف لبدة، ما يفتح آفاقاً جديدة أمام استكشاف مزيد من تفاصيل الحياة اليومية في واحدة من أكثر المدن الرومانية تكاملاً على ساحل المتوسط.
المصدر: ويكيبيديا