يمثل جامع البصرة أحد أقدم معالم الإسلام المعماري في العراق والعالم الإسلامي، حيث شُيّد سنة 14 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد القائد عتبة بن غزوان، بعد فتح المدينة وتحولها إلى مركز سكاني وإداري ناشئ، ليكون بذلك أول مسجد يُبنى خارج مكة والمدينة المنورة، ما يمنحه قيمة تاريخية ودينية بالغة في ذاكرة العالم الإسلامي.
بُني المسجد بدايةً بجذوع النخيل والقصب، ليؤدي وظيفته الأساسية كمكان للعبادة والتعليم والقيادة، إلا أن حريقاً كبيراً أتى على بنائه، مما دفع إلى إعادة تشييده باللبن والطين في عهد والي البصرة أبي موسى الأشعري، ثم أُعيد بناؤه وتوسيعه لاحقاً باستخدام الآجر والجص وخشب الساج في فترة زياد بن أبيه، الذي اعتنى بالمسجد ورفع من شأنه عمرانيًا من خلال إضافة أعمدة حجرية نقلها من جبال الأحواز، وبناء المنارة والمقصورة، ونقل دار الإمارة إلى قبلة المسجد ليجعله مركزاً للحكم والإدارة في المدينة.
شهد المسجد أحداثاً محورية في التاريخ الإسلامي، من بينها زيارة الإمام علي بن أبي طالب بعد موقعة الجمل، وزيارة السيدة عائشة، كما ألقى فيه زياد بن أبيه خطبته المعروفة بالبتراء، وكان المسجد كذلك محطة رئيسية للتعليم الديني والفقهي، إذ درّس فيه عبد الله بن عباس، والحسن البصري، وواصل بن عطاء، وتطورت فيه مبادئ الفقه والكلام، وظهرت أولى الدعوات التي نادت باستخدام العقل في استنباط الأحكام الشرعية، مما جعله أحد أوائل مراكز الاجتهاد والعلوم الدينية في الإسلام.
ارتبط بناء المسجد بمراحل تأسيس المدينة الإسلامية، إذ اتخذ المسلمون بناء المسجد خطوة أولى عند إنشاء أي مدينة جديدة، مثلما حدث في المدينة المنورة عند الهجرة، وكما حدث في البصرة، حيث شُيّد المسجد أولاً ثم نشأت حوله الخطط السكنية والأسواق والإدارات، ما يوضح دوره بوصفه نواة عمرانية واجتماعية في المدينة.
شهد الجامع توسعات متتالية أبرزها في عهد محمد بن سليمان بن علي العباسي سنة 160 هـ في خلافة المهدي، حيث اتسع المسجد ليستوعب عشرين ألف مصلٍ، فأمر الخليفة بتوسيع رقعته من خلال شراء الأراضي والدور المحيطة به، ليعكس بذلك أهمية الجامع كمركز ديني وعلمي وإداري.
ورغم مرور القرون وتعرض المسجد للتدمير بسبب الحرائق والفيضانات وتغير مواقع السكان، إلا أن معالمه القديمة ما زالت قائمة شاهدة على إرث عمراني وروحي يعود إلى صدر الإسلام، ويؤكد أهمية البصرة في التاريخ الإسلامي بوصفها أول مدينة عربية أنشئت بعد الفتوحات، وكان جامعها أحد أعمدة هذا التحول التاريخي.
المصدر: البيان